"التيارات الإسلاموية ساهمت في تراجع دور الفنون والثقافة فانتشر التعصب"

للفنون والثقافة دور رئيسي في التقارب والتواصل والتسامح بين الشعوب، لكن هذا الأمر واجه كثيراً من العقبات لا سيما مع تفشي التيارات الإسلاموية وأفكارها.

ويرى كثيرون أن دور الفنون والثقافة تراجع في خلق التواصل والتسامح ونبذ التعصب بين الشعوب، وبالتالي فالأمر يحتاج إلى تحليل كبير لمعرفة ما الذي جرى؟ ولماذا حُجم دور الفن والثقافة في تخفيف حدة الصراعات كما كان هذا دورها التاريخي؟ ولهذا أجرت وكالة فرات للأنباء حواراً مع الأستاذة الدكتورة هدى زكريا أستاذة علم الاجتماع السياسي المصرية البارزة، التي تحدثت بعمق شديد عما طال دور الفنون والثقافة.
والدكتورة هدى زكريا هي أول سيدة مصرية تدرس في جامعة ألفريد بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها أول سيدة يتم اختيارها للتدريس بالكلية الحربية المصرية، وإلى جانب تعمقها في دراسة علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي فقد تعمقت في علم الاجتماع العسكري، وقد شغلت عضوية المجلس الأعلى للإعلام في مصر في الفترة من مارس/آذار 2017 وحتى أبريل/نيسان 2021، وهي عضو المجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف برئاسة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وعضو لجنة مكافحة التطرف بالمجلس الأعلى للثقافة منذ 2021 وحتى الآن.

وإلى نص الحوار:

*ماذا عن دور الفنون والثقافة في تقليل الفجوات بين الشعوب؟

- بالطبع إن الفنون والثقافة تلعبان دوراً مهماً في تحقيق التواصل بين الشعوب، مصر على سبيل المثال كانت تصدر ثقافتها وحضارتها وإنتاجها الثقافي لغيرها من الشعوب، وإذا نظرنا أيضاً إلى آخر 100 سنة أو 200 سنة سنجد أن مصر هي التي كانت تصدر الثقافة والفن لكل الشعوب، وهنا نلاحظ أنه كان هناك نوعاً من العلاقة الوثيقة والتواصل والتقارب في الفن بين مصر وسوريا ولبنان والعراق.

*لماذا هذه الدول تحديداً؟

- لأن هذه الدول حضارات نهرية، وقد شاهدنا الفنانين والفنانات الساعين إلى الشهرة وإظهار موهبتهم يأتون إلى مصر التي كانت عاصمة الفن والثقافة وتصدرهما لكل الدول المحيطة بها، وبالتالي كانت وثيقة الصلة أكثر بالدول الشبيهة بها في الحضارة النهرية، فقد سمعنا كمصريين فيروز وحفظنا اللهجة اللبنانية، وبالتالي حدث تأثير وتأثر ثقافي بالفن الذي تم إنتاجه من قبل تلك الحضارات.

*هل مسألة العلاقة التي أشرتي إليها بين دول الحضارة النهرية طالت أيضاً الشعب الكردي في المنطقة؟

- الشعوب الكردية جزء أصيل من المنطقة، ونحن نسمع عنهم في مصر منذ زمن بعيد منذ أيام صلاح الدين الأيوبي على سبيل المثال لأنه كان كردياً، وكانت هناك دولة كردية قوية في بعض الأوقات، لكن بفعل فاعل ومع سبق الإصرار والترصد تم الاتفاق على تقسيمها على الدول المحيطة بها كتركيا وإيران وسوريا والعراق، فيما بقيت الثقافة الكردية.

*نعود مرة أخرى للحديث عن دور الثقافة والفنون في تقوية التسامح بين الشعوب والتقارب

- بكل تأكيد الثقافة والفنون تلعبان دوراً محورياً في تحقيق التقارب بين الشعوب وخلق روح التسامح، فالفن بطبعه يخلق حالة من الانسجام والتناغم بين الشعب الواحد وكذلك بين الشعوب المتجاورة، وبالتالي التناغم والانسجام يتحقق بسبب الفن بشكل أكثر سلاسة. نحن على سبيل المثال تأثرنا بالأفلام الأوروبية التي يتم إنتاجها وقرأنا ما يكتبه وليام شيكسبير، وقرأنا تاريخ التراجيديا الإغريقية، وبالتالي ما بين الشعوب يشهد ما يمكن تسميته تصدير واستيراد ثقافي دون قصد، وكلما كانت الحضارة ذات تاريخ وعميقة كلما كانت قادرة على تحقيق التواصل والتقارب، وطالما أنه لا يوجد حروب سياسية وعسكرية يكون للأمور الفنية والثقافية تأثيراً كبيراً في خلق الترابط بين الشعوب.

*إذا انتقلنا إلى الواقع الحالي، هل لا تزال الفنون تلعب نفس الدور؟ أو هل لدينا نوع من الفن قادر على لعب هذا الدور؟

- للأسف هناك تراجع، هل تريد أن تقول لي إن هناك فنوناً وثقافة يمكن أن تزدهر في ظل الاضطرابات السياسية والاجتماعية الحالية؟، بالتأكيد صعب، إن الفن لديه شروط للازدهار يجب تحققها، وهذه الشروط غير موجودة أو تتضارب، فتحن نعيش كمجتمعات عربية وغربية وشرق أوسطية وإسلامية في أزمة حقيقية، وبالتالي إنتاج الفن محدود، وفي نفس الوقت لم يكن يظهر على الساحة إلا أصحاب الفن العظيم الهادف وأصحاب الصوت القوي، لكن الآن تغير ذلك وللأسف دخل عليها ما يمكن وصفه بـ"فيضان من التفاهة"، وبالتالي فكرة دخول التافهين معركة الفن جعلت الناس لا تتابع هذا النوع، بدليل أنا عندما أريد أن أسمع أغاني أسمع فيروز وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وسعد عبدالوهاب وكل الذين غنَوا منذ أكثر من 70 سنة، ليس في الموسيقى فقط، بل حتى على مستوى الكتابة إذا أردنا الاستمتاع بالقراءة نقرأ لطه حسين ولعباس العقاد.

*هل للعوامل الخارجية دور في خلق هذا الواقع المتراجع؟

- أنا لاحظت حرص من أعدائنا على القيام بغزو ثقافي، وهذا الغزو يأتي إلى جانب نظام التعليم الذي يحتاج إلى إعادة نظر بقوة، ففي فترات سابقة كان مدرسة أو مدرس الموسيقى وفرقة الرقص أمور أساسية في التعليم، لأن الموسيقى والرقص أشياء تهذب النفس عند الأطفال، فتم استبعادهما باعتبارهما "قلة أدب".

*هذا يدعوني لأسألك حول دخول "التدين المزعوم" وأفكار تيارات الإسلام السياسي، كيف انعكست بشكل سلبي على دور الفنون والآداب والثقافة في التواصل بين الشعوب؟

- أبسط شيء أنه إذا نظرنا في السابق إلى الشيخ كشك (داعية مصري مثير للجدل ذاع صيته بقوة في فترة السبعينيات)، كان يظهر على المنبر وكل أحاديثه سخرية من الفنانين وكان يقوم بذلك أسبوعياً، ثم يتم وضع خطبه على شرائط كاسيت تسمع على المقاهي وهو يسخر على سبيل المثال من أم كلثوم ذات الفن الرفيع، فيقول كيف لسيدة عجوز أن تغني وتقول "خدني لحنانك خدني" (خدني نطق عامي مصري لكلمة خذني) ويتحول الأمر إلى سخرية، ثم يسخر من عبدالحليم حافظ حين يقول "إني أتنفس تحت الماء"، ويظل هكذا يهين وينكل بالمطربين في أشرطته التي كانت تنتشر كما النار في الهشيم.

*وماذا كانت نتيجة ذلك؟

- بالتالي بدأت تحل محل هذه الأغاني الرفيعة خطاب ديني محدود الاتجاه واللغة يتخذ من الدين ستارة لجعل من يؤمنون بالدين يبتعدون عن الوظائف النبيلة الإنسانية للأديان وتبدأ فكرة التعصب، وليس تعصباً لأصحاب الدين الواحد بل وبفعل فاعل ومع سبق الإصرار والترصد يصبح تعصباً لفئة على حساب فئة داخل الدين الواحد، فعلى سبيل المثال يقول هؤلاء إن المسلم الملتزم ليس كغير الملتزم وهو من يحدد شروط الالتزام ويمتد الأمر إلى سنة وشيعة ومسلم ومسيحي. وبالتالي هذه التيارات لعبت دوراً في تراجع دور الفنون، وفي الوقت ذاته لم تجد الحركة الفنية والثقافية دعماً كبيراً من الحكومات التي بدأت تفسح المجال لمن صعدوا المنابر وبدأوا رحلتهم بفعل فاعل من منابر صغيرة بعيدة عن إشراف الأزهر الشريف والأوقاف ثم ينتشر ما يقوله هؤلاء ثقافياً واجتماعياً خصوصاً بين العامة.

*ووصول هذه الأفكار إلى العامة بطبيعة الحال مكمن الخطورة

- بالفعل، يصبح لهم تأثيراً وسيطرة إلى أن يصلوا إلى مناطق صنع القرار، ونجد مثلاً الدكتور فرج فودة (كاتب ومفكر مصري) يتم اغتياله بيد شخص لم يقرأ له كلمة ولكن لمجرد أنه صدر له أمر بذلك، وكذلك نصر أبوزيد (أكاديمي وباحث مصري راحل متخصص في الدراسات الإسلامية) يتم تكفيره من أشخاص لم يقرأوا له كلمة، ونجد الأديب العالمي نجيب محفوظ يتعرض لمحاولة اغتيال من أشخاص لم يقرأوا له كلمة، وبالتالي أصبح هنا استخدام للعامة من خلال رؤية ظلامية محدودة.